-A +A
نجيب الخنيزي
تبدو العولمة, وكأنها بداية مرحلة نوعية، في تاريخ التطور الإنساني والعالمي، تختلف عن كل المراحل والحقب السابقة بتجلياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، بما اتسمت به من عولمة غير مسبوقة لحركة رأس ألمال، التجارة، الإنتاج، التبادل، في ظل التطور العاصف في العلم، التكنولوجيا، المعرفة، المعلومات، الاتصالات والإعلام، وبما أفرزته من أشكال وآليات وتجمعات إقليمية وقارية ودولية. وأصبحت أيدولوجيا السوق و “ الليبرالية الجديدة “ بمثابة العصا السحرية، وكلمة السر، لتدشين العالم الجديد والحياة المعاصرة لكافة الدول والشعوب. بل اعتبرها البعض من المنظرين المهووسين بالنهايات الحتمية للتاريخ والتطور الإنساني، بأنها ستكون القفلة التاريخية النهائية لمرحلة ما بعد “ الحداثة “ وخاتم البشر في الحضارة المعاصرة، وبالتالي فان أي تطورات وتغيرات لاحقة، ستكون في إطارها وضمن قوانينها الناظمة لها، باعتبارها قدرا نهائيا، ولا يمكن أن يوجد خيار انساني بديل عنها.
لايمكن فصل العولمة، عن مجرى التطورات والتغيرات التي شهدها النظام الاقتصادي العالمي، أو الرأسمالية العالمية على وجه التحديد. فالعولمة بهذه الصفة، هي الرأسمالية العالمية المعاصرة المهيمنة والمنتصرة ( إلى حين لا يمكن التكهن بمداه وأمده )، خصوصا بعد فشل وانهيار “ الاشتراكية “ في الاتحاد السوفيتي وما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي، ومع الإقرار بأنها ( الاشتراكية ) قد حققت منجزات مهمة، من بينها الإطاحة بأنظمة حكم مطلق أو ديكتاتورية، وتحرير أوروبا والعالم من خطر الفاشية والنازية إبان الحرب العالمية الثانية، ودعم حركات التحرر الوطني في بلدان العالم الثالث، وكذلك على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، غير إنها كانت في الواقع، عبارة عن رأسمالية الدولة البيروقراطية ( في غياب طبقة رأسمالية ) الشمولية ( التوليتارية ) التي يستند اقتصادها إلى المركزية الأوامرية الصارمة، الصادرة من القيادات الحزبية - الحكومية، ذات العقلية والممارسة الستالينية المتسلطة، وغير القادرة على تلمس احتياجات الشعب الحقيقية، في الحرية والعدالة ( غير الشكلية )، وامتلاك حقه في تقرير واقعه ومصيره بنفسه، دون أية وصاية من أحد. وهو ما يتناقض حتى في حده الأدنى، مع المقولات الماركسية الكلاسيكية، ومع الفكرة والبرنامج والشعار الرئيس كل السلطة “ للمجالس السوفيتية “ الذي طرحه فلاديمير اليتش لينين قائد الحزب والثورة، قبيل وبعد ثورة أكتوبر ( 1917م )، والتي تعني سلطة “ مثلي العمال والفلاحين والجنود “ المنتخبين. وما أكدت عليه القائدة الألمانية، الاشتراكية البارزة روزا لكسمبورغ ( أعدمت إثر إنتفاضة 1918 -1919 م في ألمانيا ) بأن “ الاشتراكية لن تتحقق إلا من خلال الحرية والدديمقراطية للجميع .”

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي العوامل والظروف ألموضوعية والذاتية التي مهدت للعولمة؟ من المعروف ان الرأسمالية تعود نشأتها تاريخيا، إلى ما قبل الثورة الصناعية الأولى، بزمن طويل فقد أخذت بالانتشار منذ بدايات القرن السادس عشر الميلادي، وتزامنت مع فترة الاكتشافات الجغرافية الكبرى، خصوصا اكتشاف العالم الجديد (القارة الأمريكية)، وارتبطت بالنشاط والدور الهام الذي لعبته الرأسمالية التجارية (المركنتلية) بين أوربا والعالم الجديد، وأوروبا وبلدان آسيا وأفريقيا، كما مهدت الطريق لنشوء وتكون مدن تجارية حرة ضمن الأنظمة الاقطاعية السائدة في أوروبا، أو على شكل مستوطنات وقلاع للمهاجرين البيض من أوروبا في العالم الجديد، من الباحثين عن الثروة، أو ملاذ أمن بعيدا عن الاضطهاد الديني في بلدانهم الأصلية. أدى تطور وازدهار التجارة، وعدم استطاعة الصناعات الحرفية التقليدية، مواكبة متطلبات واحتياجات السوق الداخلية والخارجية المتنامية، إلى بدايات الولوج في المرحلة الصناعية، أو ما يعرف بالثورة الصناعية الأولى التي بدأت بالمعامل الحرفية ( المانيفاكتورة ) وأخذت تتطور إلى أن وصلت مرحلة استخدام الآلة البخارية. رافق هذه العملية التاريخية الطويلة والمعقدة تغيرات وتطورات هامة وعميقة، طالت مجمل العلاقات الاقطاعية القديمة، وبنيتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وقد أسهم ما عرف بعصري النهضة والتنوير في أوروبا في ترسيخ قيم ومبادئ العقلانية والحرية والمساواة والعدالة، وبدأت تتشكل تدريجيا مقومات (الدولة – الأمة) الحديثة بهويتها القومية والثقافية الخاصة المستندة إلى فكرة المواطنة، على حساب التشرذم والتبعثر والتسلط والاستبداد الإقطاعي. لقد عبرت البرجوازية الناشئة من خلال تثوير أدوات ووسائل الإنتاج، والتغيرات الجذرية التي طالت البنية الاجتماعية والسياسية التقليدية، عن الطابع التقدمي لها كطبقة جديدة صاعدة وللتغيرات التاريخية التي قادتها، والذي غالبا ما كان يتم ذلك عن طريق الثورات الشعبية، والانتفاضات الجماهيرية التي شملت عموم أوروبا إضافة إلى القارة الجديدة، كما هو الحال في ثورة الميثاق في بريطانيا ( 1688) وثورة الاستقلال الأمريكي ( 1776 ) والثورة الفرنسية ( 1789 )، وما تلاها من ثورات برجوازية وعمليات توحيد قسري من قبل مركز أو إقليم واحد ( الإقليم – القاعدة ) كما هو الحال في الوحدة الألمانية ( بسمارك ) والوحدة الايطالية ( غاريبالدي ).
هذه العملية التاريخية المتصلة، والممتدة لعدة قرون، حوت وشهدت تناقضات وصراعات اجتماعية وسياسية مريرة، مرت بمراحل وفترات مد وجزر. وفي مواجهة تسلط واستغلال أرباب العمل الرأسماليين، الذين سعوا من أجل تعظيم هامش الربح لديهم، إلى أساليب استغلال بشعة بحق العمال و”الشغيلة” بمن فيهم النساء والأطفال، وكان رد الفعل من قبلهم هو تضامنهم للدفاع عن حقوقهم المطلبية والسياسية، من خلال تشكيل الاتحادات النقابية والمهنية، والمنظمات السياسية الحزبية العلنية والسرية، وبدأت تتبلور الأفكار والبرامج والمشاريع الاشتراكية.
ووجدت الرأسمالية والبرجوازية الصاعدة نفسها في مواجهة دعاة التغير، ومع انها استطاعت إجهاض وقمع معظم تلك الانتفاضات والثورات والإضرابات العمالية والشعبية، التي اجتاحت عموم القارة الأوروبية، الا انها اضطرت في الوقت نفسه إلى تقديم تنازلات اقتصادية وسياسية واجتماعية هامة، مثل تحسين الأجور وظروف العمل، والسماح بتكوين الاتحادات النقابية والمهنية والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. كما سنت القوانين التي تؤكد مبدأ الفصل بين السلطات.
وللحديث صلة